بشار بن برد: شاعر الثورة الأدبية

بشار بن برد: شاعر البصرة الأعمى وسحر البيان في العصر العباسي

يُعدّ بشار بن برد أحد أبرز شعراء العصر العباسي وأحد الأركان الأساسية في تشكيل ملامح الشعر العربي الكلاسيكي في بداية هذا العصر المزدهر. تميز بشار بشخصية شعرية فريدة، امتزج فيها الذكاء الحاد بالسخرية اللاذعة، والبلاغة المتقنة بالفحولة الشعرية، مما جعل شعره مرآة دقيقة تعكس تحولات المجتمع العباسي وطموحاته وتناقضاته. ورغم كونه ضريراً منذ الولادة، فقد كان ذا بصيرة نافذة ورؤية ثقافية وفكرية متقدمة، جعلت منه أحد أعمدة الأدب العربي وممن أثّروا بعمق في مسار الشعر العربي في المراحل اللاحقة.

النسب والنشأة والبدايات

وُلِدَ بشار بن برد في البصرة سنة 96 هـ الموافق 714م، في بيئة اجتماعية واقتصادية متواضعة، وكان من الموالي، إذ يعود أصله إلى خراسان من أسرة فارسية. نشأ في كنف موالي بني عقيل، وربّاه والده في بيئة عربية خالصة، مما مكّنه من امتلاك ناصية اللغة منذ صغره. وُلد أعمى، لكن هذه الإعاقة لم تمنعه من التفاعل العميق مع محيطه الثقافي والاجتماعي، بل كانت من المحفزات التي عمّقت فيه روح التحدي والإبداع.

عاش بشار في البصرة، المدينة التي كانت تموج بالحراك الثقافي والفكري والديني، حيث التقى بكبار العلماء والنحاة والمتكلمين، وتأثر بالاتجاهات الفكرية المختلفة التي كانت تموج بها البيئة العباسية الناشئة، بدءاً من المعتزلة إلى المجالس الأدبية، ما جعله أكثر تمرساً ووعياً بمفردات العصر.

ملامح العصر العباسي وتأثيره على بشار

جاء بشار في فترة التحول السياسي والثقافي بين نهايات العصر الأموي وبدايات العصر العباسي، حيث بدأ المجتمع العربي يشهد تحولات جوهرية في البنية الثقافية والاجتماعية. اتسع نطاق الدولة الإسلامية، وتزايد تأثير الشعوب غير العربية، وخاصة الفرس، وهو ما انعكس بقوة في الشعر والأدب.

وقد كان لبشار، من حيث الأصل الفارسي والثقافة الإسلامية العربية، موقف خاص من هذا الواقع. عبّر عن ذلك بوضوح في أشعاره، حيث وقف في كثير من الأحيان ضد العصبية العربية، متبنياً خطاباً موالياً للموالي ومتهكماً من أنصار الشعوبية العربية، رغم أنه لم يكن شعوبياً بمعنى الموقف المناهض للعروبة، بل كان يستخدم السخرية من أجل كشف التناقضات في الخطاب السائد آنذاك.

الأسلوب والخصائص الفنية في شعر بشار بن برد

يتّسم شعر بشار بجمال الصياغة، وكثافة التصوير، وجرأة الطرح، والعمق في المعنى، حتى أصبح نموذجاً للشاعر الذي مزج بين القديم والحديث. وقد تجلت أهم الخصائص الفنية في شعره فيما يلي:

1. البناء الفني المتين:

رغم أن بشار كان أحد أوائل الشعراء العباسيين، فقد حافظ على تقاليد القصيدة العربية الجاهلية في بنيتها من مطلع غزلي أو وقوف على الأطلال، ثم الانتقال إلى الغرض الأساسي. ومع ذلك، نجح في تجديد هذه التقاليد عبر استخدام الصور البلاغية المبتكرة والأسلوب اللاذع.

2. التجديد في الموضوعات:

انتقل بشار بالشعر العربي من عالم القبيلة والصحراء إلى عالم المدينة، وعبّر عن الطبقات الجديدة في المجتمع الإسلامي، وخاصة التجار، والموالي، وأهل البصرة وبغداد. وتطرّق في شعره إلى موضوعات الحياة اليومية، والملذات، والمرأة، والنقد الاجتماعي، والمجون، والسياسة، والفكر.

3. السخرية والتهكم:

امتلك بشار أسلوباً تهكمياً بارعاً، وكان يعبّر عن أفكاره بأسلوب ساخر يجمع بين الذكاء والجرأة. وكان يُسخّر هذا الأسلوب ليس فقط في الهجاء، بل حتى في الغزل والفخر والوصف، مما أضفى على شعره طابعاً متفرداً.

4. الفحولة الشعرية:

امتاز بشار بقوة العبارة وتراكيبها المحكمة، فكان فحل شعراء عصره، وشهد له النقاد بقوة التعبير وبقدرته على توليد الصور الشعرية المبتكرة، خصوصاً في الغزل والوصف.

أغراض شعره

انطوى شعر بشار على تنوع واسع في الأغراض الشعرية، ونستعرض أبرزها على النحو التالي:

موقفه من الدين والفكر

اتُّهِم بشار بالزندقة، وربما ساهم شعره الماجن وتصريحاته الجريئة في تعزيز هذا الانطباع. إلا أن المتأمل في شعره يجد أنه كان يستخدم هذا الأسلوب للمبالغة الفنية، وليس بالضرورة تعبيراً عن عقيدة دينية حقيقية. وقد تردد كثيراً في الأخبار التاريخية أن بشار كان يميل إلى الفكر العقلاني، وأنه كان على علاقة ببعض المفكرين والمعتزلة.

ورغم شيوع الاتهامات حوله، فإن التحقيقات التاريخية الحديثة تميل إلى أنه لم يكن زنديقاً بالمعنى العقائدي للكلمة، بل كان ضحية لحملات التشهير التي كانت تُستخدم سياسياً وأدبياً آنذاك ضد الشعراء الذين خرجوا عن الأعراف.

الصراع مع الشعراء والنقاد

كان بشار شديد التحدي لأقرانه، ولم يكن يتردد في هجاء خصومه من الشعراء والفقهاء، مما أدى إلى نشوب صراعات أدبية عنيفة معه، من أبرزها خصومته مع الأصمعي، الذي اتهمه بالإلحاد والسخرية من الدين.

وقد خاض أيضاً معارك شعرية مع جرير والفرزدق والمتنبي في وقت لاحق من خلال مقارنات النقاد بينه وبينهم، مما جعله في مركز الجدل الثقافي لعقود طويلة.

النهاية المأساوية

انتهت حياة بشار بن برد نهاية مأساوية سنة 167 هـ (784م)، حين أمر الخليفة المهدي بقتله بعد اتهامه بالزندقة والتجاوز على قيم الدين والأخلاق. وقد تضاربت الروايات حول الطريقة التي أُعدم بها، فهناك من يقول إنه ضُرب حتى الموت، وآخرون يذكرون أنه أُلقي في نهر.

مهما يكن من أمر، فإن هذه النهاية لم تُطفئ نجم بشار الأدبي، بل ربما زادته تألقاً، إذ صار يُنظَر إليه بوصفه شهيد الكلمة الحرة والموقف الجريء.

أثره في الشعر العربي

ترك بشار إرثاً شعرياً غنياً تأثر به من جاء بعده، خصوصاً شعراء البديع الذين رأوا فيه رائد الصور الفنية الجديدة، كما اعتُبر من المؤسسين الحقيقيين لمدرسة الشعر العباسي التي تميزت عن الشعر الأموي بنضجها الحضري وثقافتها المتنوعة.

وقد جمع بعض المؤرخين ديوانه في مجلدات كبيرة، ضمّت مئات القصائد في أغراض شتى، وصار اسمه مرجعاً مهماً لكل باحث في تطور الشعر العربي الكلاسيكي.

اللغة والأسلوب في شعره

كانت لغة بشار جزلة قوية، تعتمد على مفردات عربية خالصة، رغم تأثره بالثقافة الفارسية. وكان يوظف المحسنات البديعية دون تكلّف، مستفيداً من حسه الموسيقي العالي، حتى أن بعض نقّاد العصر الحديث اعتبروا بشار من الأوائل الذين مهدوا للانتقال نحو الشعر الفني الذي بلغ أوجه في عصور لاحقة.

ومن أبرز صفاته اللغوية:

• السهولة الممتنعة: حيث يبسّط المعنى دون إخلال بالبلاغة.

• الجرأة في التعبير: استخدام صور صادمة أحياناً، تخدم المعنى وتعبر عن رؤيته الخاصة.

• التكثيف البلاغي: استعمال التشبيه والاستعارة بكثافة.

• الموسيقى الداخلية: قدرة على ضبط الإيقاع الشعري بما يتلاءم مع المعنى.

خاتمة نقدية: بشار بن برد بين التناقض والإبداع

تُعدّ تجربة بشار بن برد واحدة من التجارب الشعرية النادرة التي جمعت بين عبقرية اللغة وقوة الموقف، وبين الإبداع الفني والجدل الأخلاقي. فقد كان شاعراً مجدداً سابقاً لعصره، وصاحب رؤية نقدية حادة، لا يتردد في تعرية النفاق الاجتماعي والسياسي والديني، وهذا ما جعله عرضة للهجوم والنفي والقتل.

ورغم ما تعرض له من تشويه، ظلّ شعره حياً، لما فيه من صدق وجمال وابتكار، وما زال يُدرس في الجامعات بوصفه أحد أعمدة الشعر العربي، ومثالاً على القدرة الاستثنائية للكلمة في التأثير على الفكر والمجتمع.

المصادر:

1. شوقي ضيف، تاريخ الأدب العربي – العصر العباسي الأول، دار المعارف، القاهرة.

2. إحسان عباس، تاريخ النقد الأدبي عند العرب، دار الثقافة، بيروت.